هشيم الذاكرة

في الطريق إلى المؤتمر الوطني الأول لجبهة التحرير الإرترية (5)

كان العبور إلى الداخل الإرتري بُعيد الغسق مريحاً ومليئاً بمشاعر فياضة وأحاسيس غامرة لا تخطئها العين إذا ما تسلل ضوء عابر إليها. الجميع يغز السير وأحياناً يهرول بين فينة وأخرى في صمت؛ حتى الجمال لا تسمع لها رغاء كأنهم في صلاة جامعة. كان جميع من في القافلة نشيطاً مفعماً بالشوق يحدوه أمل في طي المسافات في غمضة عين لبلوغ مكان المؤتمر ولقاء الأحباب! أثناء السُرى تجاوزنا بعض الحَلّال المتناثرة لقوم رُحل كان يلوح لهب نيرانهم الغافية من بعيد. لم يبلغ التعب مبلغه بعد ولم تظمأ الشفاه لقطرة ماء أو يعض الجوع البطون حتى بلغنا قرية “عد عمر” قُبيل الفجر. أنخنا رحلنا على أطراف القرية التي استيقظ أهلوها على صوت نباح كلاب وهُرعوا إلى حيث تراخت الأجساد بعد سير استغرق ساعات. جاءت حفنة من رجال القرية أحسبهم لجنة الاتصال بالضيوف من مقاتلي جيش التحرير وغيرهم من أعضاء الجبهة حينما يتوقفون عندهم لبرهة.

سارع مقاتلون كانوا موكلين بحراسة الجمع إلى أخذ أماكنهم في أنحاء متفرقة حول القرية تأميناً للركب، وقام آخرون بإنزال الرحل من على الجمال وإيقاد النار لإعداد وجبة شاي ساخنة مترعة بالسكر تنعش القوم وتريحهم وتزيل رهق الرحلة من أجسادهم المتعبة. سبقهم البعض الأخرى إلى تقديم أكواب من الماء للعطشى ومنهم من مسح بها وجهه وآخرون اقتصدوا في وضوؤهم حتى لا ينفد الماء من القِرب التي كانت محملة على ظهور الجمال. في هذا الأثناء جلب بعض رجال القرية حليب النوق الطازج في أقداح واسعة صنعت من اللبِن أو من فوارغ القرع (دُبا) وعليها أعشاب أعطت نكهة طيبة للحليب. كرع الجميع الحليب كرعا حتى تحسب أن لدى بعضهم ثأراً مع النوق فأراد الانتقام عن طريق شَرب حليبها حتى الثمالة؛ هذا وإن تردد بعض الضيوف في بادئ الآمر عن شربها ومنهم المصور الإيطالي وبعض الطلاب الإرتريين الذين غلبت عليهم ثقافة الفرنجة في المأكل والمشرب والمظهر والكلام!

في ذلك الحين أشعل أهل القرية النيران وأعدوا للجمع وجبة جاءت في قصاع عددا. كانت وجبة “البجبوج” المعدة من الطحين والماء والحليب وأحياناً غيره حين ميسرة هي مما يقدمه القرويون لمقاتلي جيش التحرير حين مرورهم بقراهم، وهو طعامهم اقتطعوه من أفواههم وأفواه أسرهم بأريحية وكرم منقطع النظير لا يصاحبه مَنٌ ولا أذى. تحلق أفراد القافلة حول القصاع وتوزعوا أعداداً على كل قصعة يزدردون ما قدم إليهم بشهية كانت صلصتها الجوع والمعدة الخاوية! لم يكن المصور الإيطالي والأخوة الفلسطينيون معتادين على الأكل باليد، لكن المنظمين حسبوا حسابهم فجاؤوا بملاعق وصحون معهم. بعد أن امتلأت البطون وارتوت الشفاه والحلوق انتحى الكل ناحية فتمدد وغفا حتى الضحى.

استيقظ أعضاء المؤتمر وضيوفه في الضحى، ألا أن غيرهم كان صاحياً ويقظاً، إذ تناوب الحراسة مقاتلون أشاوس وأفاق بعض المرافقين قبلنا لإعداد وجبة شاي الصباح وتقديم قليل من الطعام الذي جاؤوا به معهم من كسلا، كما انصرف آخرون إلى شد الأحمال على الجمال تهيئة للانطلاق. سار الموكب نهاراً فقد أصبحنا في الأراضي الحرام المحررة، المحرمة على العدو، وهو لا يترصدنا في هذه المنطقة. كان اتجاهنا نحو بركه وما بعدها. مررنا بعدد من القرى والحلال حتى وصلنا إلى بلدة كانت تحتفل بختان أحد أبنائها حيث ذبحوا قعوداً. وضعنا رحلنا بعد الظهيرة خارج هذه البلدة الصغيرة وقام المقاتلون بتطبيق المراسم المعتادة في هذه الظروف من حراسة واستطلاع الخ.. أحضر أهل البلدة كالعادة حليب النوق للضيوف ومن ثم ضلعا من أضلاع البعير التي نحروها ابتهاجاً بختان ابنهم. على غير العادة منذ انطلاقنا فوجئنا بمجيء الصبايا يحملن الماء والحليب وبعض ما أعد للزوار القادمين من قرى وأماكن قريبة وأقرباء أهل البلدة وخاصة أصحاب الفرح ابتهاجاً ومشاركة منهم في هذه المناسبة السعيدة. كان اللحم وفيراً وطازجاً وليس مدهناً، إنما الدهن في سنام الجمل الذي أعطينا قليل منه، فلم يقربه الا من اعتاد على تناول “الحاشي”. أوقد المقاتلون نيران مواقد الشواء بدَرِبة وخبرة ثم تعاملوا مع الأضلاع. أبى الإيطالي وبعض إرتريو الخارج والفلسطينيون تناول هذا اللحم في البداية ثم تذوقوا قطعاً صغيرة منه تناولوها بأطراف أناملهم فإذا بهم بعد ذلك ينهشونه نهشا ويسابقوننا إليه وفيه.

خلد قلة إلى القيلولة بعد وجبة دسمة لم تكن في الحسبان، وانطلقت ألسنة الإرتريين القادمين من إيطاليا بوصف حُسن وجمال صبايا البلدة باللغة الإيطالية مندهشين انهن لا يرتدين ما يكفي لستر صدورهن العارمة بل يرخين طرحة تدلت من رؤوسهن تستر حيناً وتكشف أحياناً. كانوا يجهلون انه تقليد في تلك الأنحاء لا يدعو للاستهجان ولا الاستغراب ولا يلفت النظر وليس عيباً عندهم، بل يحسبونه دلالة على عزوبية الفتاة البكر البتول غير المخطوبة وغير المتزوجة. فالعفاف عند الرجال مثلما عند النساء سواء بسواء في تلك الربوع. كانت تلك هي المرة الأخيرة التي رأينا فيها نساء حتى بلوغنا مقر المؤتمر في “درور نقيب” ثم ارتحالنا منه لنستقر في “امبراسيت”، وكلاهما في سلسلة جبال آر. كانت النساء في المؤتمر قلة قليلة يكاد وجودهن لا يُلحظ، فالكل في شغل شاغل بمصير الثورة ومآلها ومستقبل البلاد، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من تداعي الانقسام الذي بدأ يلوح في الأفق، وتفادي الحرب الأهلية التي بدأت نذرها تبدو من على البعد القريب المنظور. مشاركة المرأة الإرترية في المؤتمر والتحضير له غاب عن بال الغالبية العظمى، إن لم تكن الكافة، فحُرمت المرأة من عضوية اللجنة التحضيرية، ومن عضوية المؤتمر إلا ما ندر، وهي التي تحملت مشاق العمل الثوري ودفعت أثماناً باهظة في كل مراحل النضال وتلقت بصبر ضربات العدو وتنكيله قبل وبعد سياسة الأرض المحروقة في العام 1967 وحملات الانتقام التي شنها العدو على القرى وفي المدن، وقسوة اللجوء وتبعاته. كانت اللجنة التحضيرية تعكس الطيف الإرتري بكل مكوناته لكنها عرجاء، إذ لم تُمثل فيها المرأة فكانت تلك نقيصة يتحملها الجميع.

تابع الموكب سيره لأيام متجاوزاً بعض القرى التي كنا نراها ونتخطاها إلى أن بلغ بنا الطريق تخوم مدينة أغوردات حيث كانت تفصلنا عنها تلال صخرية لا تبلغ مبلغ الجبال الشاهقة. ظلت الجمال على صمتها، لا تصدر رغاء ولا حنيناً ولا أرزاماً تظنها تشعر بثقل المسؤولية وخطورة المهمة فتتحاشى أن يُسمع لوقع أظلافها صدى. كان القرويون والرعاة وأهل المنطقة عيون وآذان جيش التحرير يتحرون تحركات العدو ويرصدون حركاته ويتعقبون جواسيسه، فلم ينتابنا إحساس في مسيرتنا تلك الا بالاطمئنان والسكينة.

وصلنا تلك التخوم قبيل المغرب بقليل فنفر بعض المقاتلين إلى تسلق التلال والأطلال على المدينة تقصياً لما يدور فيها وحولها ومعرفة إن كان هناك تهديد للموكب. كانوا يتسلقون التل تلو الآخر، وهم يتمنطقون أسلحتهم ويحزمون ذخائرهم وقنابلهم اليدوية على أجسادهم. تسلقوها بخفة لاعبي السيرك الذين يتسلقون الحبال في الحلبة. حاول الملازم طه، عضو الوفد الفلسطيني، أن يلحق بهم لكنه عاد ادراجه من منتصف التل الصغير وهو يلهث قائلاً انه كاد قلبه أن يتوقف عن الخفقان. هذه الطرق وهذه السهول وتلك الوديان والتلال والجبال لا يفل حديدها الا مقاتلو جيش التحرير. تراهم وهم ينتعلون صندل “الشدة”، – ومنهم من خاط أطرافه بعد أن تمزق من كثرة المشي والمسافات الطويلة التي قطعوها على مر الأشهر والسنين – يسيرون ويتسلقون دون أن يبذلوا جهداً يذكر أو يصيبهم رهق، فهم كأسراب الريم في الفلاة.

كنا قد أخذنا قسطاً من الراحة حين عاد المقاتلون من مهمتهم الاستطلاعية، فواصلنا المسيرة في اتجاه تكرريت. حينما أليل الليل بلغ بالضيوف التعب مبلغه فقررنا الاستراحة حتى صباح اليوم التالي حينها أفاق الجميع أكثر نشاطاً. كنا على أطراف تكرريت وبالقرب من بساتينها. ذهب فوج الاستطلاع مبكراً ليرى إمكانية دخول بعض البساتين من غير التعرض للمخاطر فعادوا بالخبر اليقين بأن الأمر ميسور ولا وجود للعدو في المنطقة أو حولها أو قريباً منها. هناك تناولنا قليلاً من فاكهة الموسم وبعض الخضروات الطازجة. كانت تكرريت مؤشراً لا مراء فيه على “إرتريا الخضراء”. زال العبوس عن الوجوه وارتسمت الابتسامة على الشفاه وارتخت عضلات الوجنات المشدودة لرؤية الأشجار والنباتات وسماع خرير الماء. كانت بساتين تكرريت آخر ملامح إرتريا الخضراء لزمن غير قصير في طريقنا ذاك. يتبع

شاركها

Share on facebook
Share on twitter
Share on pinterest
التصنيفات
منشورات ذات صلة