يتحدث المفكر الأمريكي “نعوم تشومسكي” عن استراتيجية التحكم في الشعوب من خلال بلورة عشرة استراتيجيات تسلكها الأنظمة الحاكمة وتطبقها من خلال التأثير النفسي ، وبالرغم من أن بعض هذه الأدوات واضح إلى أنه لايزال على قدر كبير من الفاعلية والتأثير على الناس ، وقد أستند تشومسكي في كشفه لتلك الاستراتيجيات إلى “وثيقة سرية ” يعود تاريخها إلى مايو 1979م، وتم العثور عليها عام 1986م، و تحمل عنوان: “الأسلحة الصامتة لخوض حرب هادئة” وهي عبارة عن كتيب للتحكم في البشر و السيطرة على المجتمعات.
واستراتيجيات تشومسكي العشرة هي : الإلهاء ـ أخلق المشكلة و وفر الحل ـ التدرج ـ التأجيل ـ خاطب العامة كأنهم أطفال ـ أستخدم الجانب العاطفي بدلا عن العقلي ـ إبقاء العامة في حالة من الجهل والغباء ـ تشجيع العامة على الرضا بالجهل ـ تحويل التمرد إلى الشعور الذاتي بالذنب ـ معرفة الأشخاص أكثر مما يعرفون أنفسهم.
بقليل من التدقيق في السياسات التي طبقها الدكتاتور أسياس خلال الثلاثون عاما الماضية نجد أن استراتيجيات تشومسكي العشرة تنطبق على ما طبقه في شعبنا كإنطباق القفاز على المعصم ، والمجال هنا لا يتسع للحديث عن الاستراتيجيات العشرة ، لهذا سنكتفي باستراتيجتي الإلهاء ، وأخلق المشكلة و وفر الحل ، فالإلهاء حسب ما يرى تشومسكي هو عنصرا أساسيا في التحكم الاجتماعي وهو إلهاء انتباه العامة عن القضايا والتغييرات الاجتماعية الهامة التي تحددها النخب السياسية والاقتصادية، والإلهاء يتم من خلال تصدير عدد كبير من الإلهاءات والمعلومات التافهة، وكذلك عبر اشغال المجتمع ، عبر خلق ظروف اقتصادية خانقة حتى يلتهي بها المجتمع عن ما تنفذه النخبة الحاكمة ، وإذا تتبعنا ما يفعله الدكتاتور أسياس طيلة سنوات حكمه وفقا لما يقوله تشومسكي نجد أن لعبة الإلهاء هي ما يمارسها على الشعب الارتري طيلة سنوات حكمه الطويلة ، فالجميع يعلم عن صراع القوميات في تطوير لغاتها و ما فعله في التعليم بلغة الأم وفي الاطار الاقتصادي قلص وإلى حد كبیر من إمكانات إرتریا في التنمیة للضغط على الشعب اقتصاديا وجعل الهم الأول للمواطن المعيشة التي تأتي في الترتيب الأول في سلم “هرم” ماسلو الذي يرتب الحاجات الضرورية وأولويات الانسان في التعامل معها ، ومن يعاني من مشاكل في المعيشة لا يمكن أن يفكر في غيرها من الحاجات ، بالإضافة إلى برنامج العسكرة الشدیدة ، التي نتج عنھا زيادة الضغط وتقهقر المواطن وتردي حاله وزادت على هواجسه هاجس الأمن فأدت إلى الھجرة الجماعیة وأهمها القوة الشبابية الفاعلة ، بالاضافة لسياسة الحد الأدنى من التعليم الذي لا یتناسب مع إمكانات الشعب الارتري.
أما استراتيجية أخلق المشكلة و وفر الحل يقول تشومسكي في هذه الاستراتيجية تستخدم هذه الاستراتيجة عندما يريد من هم في السلطة أن يمرروا قرارات معينة قد لا تحظى بالقبول الشعبي إلا في حضور الأزمة التي قد تجعل الناس أنفسهم يطالبون باتخاذ تلك القرارات لحل الأزمة، وتعرف بطريقة (المشكلة – رد الفعل – الحل) من خلال اختلاق موقف أو مشكلة يستدعي رد فعل الجمهور ، و يضيف على سبيل المثال: دع العنف ينتشر في المناطق الحضارية أو قم بالتحضير لهجمات دموية، مما يجعل الجمهور هو الذي يطالب السلطة باتخاذ إجراءات وقوانين وسياسات أمنية تحد من حريته.
بالتأكيد السياسات التي طبقها أسياس في هذا المجال متنوعة وكثيرة والتي نعرفه منها قليل جدا بداية بما عرفوا بمجاهدي أسياس التي عرفنا جزء منها بعد هروب بعض رجالات أمنه مرورا بالحروب التي أشعلها مع دول الجوار لمبررات شتى إلا أن كلها على غير الحقيقة تحت بند الدفاع عن الوطن وكرامته بداية بالحرب مع اليمن ثم السودان والأقوى كانت مع أثيوبيا ثم جيبوتي ، وبقليل من التركيز والبحث عن الظروف التي تسبق كل حرب من تلك الحروب يجعلنا نقرأها في سياقها الصحيح ويجعلنا نحدد إن كانت ضمن استراتيجية خلق الأزمات وحلها أم وردت ضمن سياق طبيعي، والظروف التي سبقت كل حرب من تلك الحروب تقول أنها جاءت ضمن استراتيجية خلق الأزمات وحلها فحرب اليمن قد سبقها أحداث ماي حبار ومعاقي حرب التحرير والرغبة الملحة في اشغال من تبقى من عسكريي مرحلة التحرير ، ثم الحرب مع السودان ركوبا للموجة العالمية المعادية لتوجهات النظام السوداني (وربما كانت تنفيذا لرغبات جهات أخرى قبض منها الثمن) ، فأشعل معركة مع السودان تحت غطاء المعارضة السودانية فأقتحم منطقة جنوب طوكر وشمال كسلا ، وقد استخدم المعارضة السودانية لأنه خشي من اعلان حرب مع السودان لا تجد قبولا من الشعب الإرتري لأن أغلبية الارتريون يحتفظون بالكثير من الود للسودان ، ثم وضع الدستور وتكوين المجلس الوطني الذي أراد له أن يكون صوريا ومع هذا حتى الوضع الصوري لم يرضيه و الحراك السياسي الذي بدأ يطل برأسه منذ العام 1997م ، كل ذلك دفعه دفعا ليطبق استراتيجية خلق الأزمة وايجاد الحل فأختلق أزمة بادمي مع أثيوبيا (( هذا لا ينفي وجود مشكلة حدودية أساسا وخلافات حول مناطق حدودية كثيرة)) ، والأزمة هنا هي في أتخاذ قرار الحرب مباشرة بدلا أن تتدرج في ايجاد الحلول لأنها هي التي كانت مقصودة لذاتها ضمن استراتيجية خلق الأزمات لاسكات كل الأصوات ، فالرأي العام الداخلي والخارجي، الموافق والمعارض لا يمكن حشره بسهولة بجانب قضية معينة ما لم تكن هناك أزمة حقيقية أو حدث يأخذ العقل بكامله ويقذفه في متاهات تلك الأزمة والحدث ، وهذا بالضبط ما يفعله أسياس في كل مرة ، ويفقد كل الشعب الارتري البوصلة موالياً كان أم معارضاً وترتفع أصوات المتملقين وأصحاب الغرض أكثر من غيرها لتسكت كل من يفكر مهما كان ذاك التفكير منتج أم غير منتج لأنها تعلم أنه إذا فكر سيكتشف اللعبة لا محالة ، لهذا تدغدغ المشاعر بالوطنية والكرامة والأرض وتستدعي التاريخ المقيت لذاك الطرف ، والحرب القادمة مع التجراي التي نتوقع أن لا تكون كسابقتها شاملة فالمتوقع أن تكون محدودة ، لكن سيسري عليها نفس ما سرى في الحروب والأزمات التي سبق وأن أفتعلها النظام وسيخرج زبانيته والمخدعوين من أبناء شعبنا ليبرروا مواقف أسياس ويشحذوا الهمم بالوطنية والكرامة الارترية والدفاع عن الوطن المهدد من أعداء الأمس ، وكل ذلك سوف لن يغير حقيقة الحرب القادمة فالدكتاتور أسياس في أشد الحاجة إليها بعد أن وصلت الأمور في الداخل لحافة الهاوية ، و هو كذلك في حاجة شديدة إليها ليثبت أنه أعلى كعباً من حلفاء الأمس وأن عبارة “قيم أوفر” التي قالها لم يقلها اعتباطا ، أما نحن كل الذي سينوبنا منها كشعب ارتري أنها ستمد في عمر النظام الدكتاتوري الذي يحكمنا بالحديد والنار وسنفقد فيها خيرة أبناء شعبنا.
