بقلم الأستاذ/ محمود عمر إدريس
ارتريا هذه الدولة الصغيرة تمثل ملتقى للحضارات التي قامت في كل الاقليم، خاصةً في السودان و إثيوبيا فالسودان له تأثيره الحضاري والثقافي على المنخفضات الارترية التي كانت جزءً أصيلًا من تأريخ وجغرافية شرق السودان والذي كان يضم ( التاكا وسنحيت ومصوع وسواكن). وتعرف جملةً بأرض البجا، كما كانت المرتفعات جزء من الحضارة الاثيوبية، بيد أن إقليم التجراي والمرتفعات الارترية بعاصمتهم الدينية (أكسوم) تشكل تاريخ مشترك كما ، وقد ذكر ذلك ترفاكس حاكم ارتريا البريطاني في كتابه ( ارتريا مستعمرة في مرحلة الانتقال) أنه في فترة حق تقرير المصير (أربعينات القرن الماضي) رفع التجراويون مذكرة للجنة الأمم المتحدة يؤكدون فيها أن مصيرهم يجب أن ينظر مع ارتريا خوفًا من سطوة وإبتلاع حضارة شوا الاثيوبية ، هذا فضلًا عن الامتداد العفري في كل من إثيوبيا وجيبوتي.
بدأ تشكل الدولة الارترية بحدودها الحالية منذ إنشاء الطليان مستعمرتهم عام ١٨٩٠م وإختيار أسمرا عاصمة لها ، وبالرغم من مقاومة بعض القادة المحليين للاستعمار الايطالي ، إلا أن الإحساس بالهوية الارترية برز بعد الحرب العالمية الأولى في مرحلة الوعي الوطني وتشكل الدولة القطرية حيث كانت أول لحمة تلاقي في بيت جرجيس وتكونت جمعية حب الوطن (فقر هقر) ، ثم إستمر تنامي الوجدان الوطني حتى نهاية الحرب العالمية الثانية التي تلاها تشكيل الأحزاب السياسية الارترية والتي شارك عددٍ كبير منها في تكوين الكتلة الاستقلالية ، ولم تخلُ هذه المرحلة من تأثيرات العمق الحضاري والثقافي للدولتين إثيوبيا والسودان حيث نشأ حزب التقسيم والذي كان يطالب بضم المنخفضات إلى السودان والمرتفعات الى لإثيوبيا، كما تأسس حزب ينادي بضم كل ارتريا إلى اثيوبيا (أندنت) ، هذه التناقضات اضطرت الأمم المتحدة لتشكيل لجنة تلو الأخرى حتى بلغت ثلاثة زيارات لارتريا.
لم يكن للسودان أطماع في ارتريا بينما بذلت إثيوبيا أقصى قوتها لضم ارتريا و انحاز أغلب أبناء التجرنيا لإثيوبيا لدور هيلي سلاسي عميق الأثر دينياً وثقافياً وما قدمه من توفير فرص عمل وتعليم لهم ،وزاد الطينة بلة قيام الكيان الاسرائيلي في فلسطين حيث ألقى بظلاله على الصراع الارتري الإثيوبي اذ كان هيلي سلاسي حليفاً لاسرائيل بل كان يدعي انتمائه للأسرة السليمانية حيث بذل جهداً جبار لجعل ارتريا جزء لا يتجزأ من إثيوبيا وتوصيف رغبة الشعب الارتري في الاستقلال بالفتنة و التدخل من الدول العربية والإسلامية في شؤون دولته الداخلية لاستدرار عطف الغرب وبالفعل قد حصل على تأييد ضخم إذ استقرت أول قوة عسكرية عدداً في العالم خارج امريكا آنذاك في ارتريا قاعدة( غانيو استيشن ) باسمرا قوامها 4000 خبير أمريكي ، كما ان هذه التقاطعات أدت لتضامن بعض الأحزاب اليسارية عامة والعالم العربي خاصة لدعم الثورة وتبني القضية الارترية كقضية عربية و تحررية وشقت جبهة التحرير الارترية طريقها وأمامها تحديات كبيرة أهمها إقناع شركاء الوطن من أبناء التجرنية وضرورة جذبهم للثورة وإعطاء الأولوية لمن يلتحقون بها في فرص التأهيل والتمثيل ، وخير دليل على ذلك أن الرئيس الحالي قد حصل على فرصة تأهيل قادة في الصين ضمن عدد ضئيل وفرص محدودة.
بالرغم من مساهمات بعض المناضلين من أبناء التجرنية منذ بواكير النضال الارتري ، إلا أن تدفق الأغلبية على الثورة اقتضته ظروف مهددة لمصالح أكثريتهم أقواها سقوط نظام هيلي سلاسي حليف الأمس و مشاركة أمان عندوم من أبناء التجرنية في إنقلاب الدرق على هيلي سلاسي ثم تصفية أمان عندوم من قبل منجستو بالإضافة لبلوغ الثورة ذروتها وسيطرتها على كامل الريف الارتري.
استغلت مجموعة من التجرنية خلفية تعبئة اثيوبيا بالإضافة لاستغلال بعض الخلافات الإدارية في الثورة وقاموا بوضع منفستو (نحن وأهدافنا). هذه الوثيقة التي عملت على التشكيك في الثورة الارترية وذكرت الوثيقة في إحدى فقراتها (إن قيادات الجبهة تقوم بنهب أبقار أهلنا وتبيعها في كسلا وتشتري من عائداتها البيوت في كسلا والقضارف) ، من يتدبر هذه الفقرة يجدها إنها تشكل دعوة صريحة للمواطن العادي للتجرنية أن التفافه حول مشروع نحن وأهدافنا هو حماية له ولممتلكاته وبناء تنظيم يثق به، وتدعم الوثيقة تعبئة إثيوبيا في التشكيك بالثورة.. لذا استوعبت هذه النخبة أكبر عدد من عامة التجرنية وسعت في تعميق الهوة فكراً وممارسة وكان أكبر سيناريو التحالفات إتفاق الشعبية مع التجراي لاخراج جبهة التحرير الارترية من حلبة الصراع ثم إستمرار التحالف حتى تغيير النظام في إثيوبيا و إستقلال دولة ارتريا.
نعود إلى جوهر الموضوع وهو التباين المبني على الدول من حولنا فمثلًا لم يكن لجيبوتي أطماع في ارتريا كما لم يفكر مكون العفر الاتكاء في عمقه للإضرار بالمشروع الوطني الارتري اما إتكاءت المنخفضات على السودان والامتداد العربي الإسلامي وفر لنضالنا حاضنة ودعم ضد المستعمر ونفخر به كما أنه يمثل جزءً مهماً من شخصيتنا الاعتبارية ، كما أن صلة بعض أبناء التجرنية بعمقهم الثقافي والاجتماعي في اثيوبيا جدير منا بالاحترام. ولكن تأتي الخطورة في إستخدام هذه الحاضنة لتظل مهدداً أساسياً لمشروع الدولة الوطنية الارترية وإن الجبهة الشعبية التي تعتمد حتى الآن على البعد الثقافي الإثيوبي ، توفرت لها فرصة ذهبية لبناء الثقة وتناسي جراحات الماضي ولكنها عمقت التباين و أستمر النزيف حتى وصل حال شعبنا إلى إقامة تنظيمات حقوقية على أساس جهوي ، ديني في معسكر المعارضة و حتى محاولات الإصلاح في الداخل لم تخل من اصطفاف إجتماعي . ونشاهد أن بعض أطراف محسوبة على المعارضة يعاودها الحنين لاستمرار نهج النظام الاقصائي ولعب دور البديل الذي يستخدم الاتكاءة الاثيوبية للاستحواذ على الوطن ثقافة وحضارة ويصل الغلو بالبعض ما يفوق النظام الحالي وذلك بالتغول على رمز النضال الارتري الشهيد حامد إدريس عواتي وأخرى تعتبر اللغة العربية دخيلة ، حتى صلت الجراءة من البعض اعتبار كل الوطن جنينة خلفية لأفكارهم الهدامة الاجاعزيان كمثال .
إن الإتكاءة على خلفية الامتداد الاجتماعي من قبل بعض نخب التجرنية ظل يشكل نقمة ، ويكاد يؤدي إلى إنهيار الوطن أخذين في الاعتبار المتغيرات التي تشهدها المنطقة من حولنا اليمن والصومال جنوب السودان و السودان بعد ثورة حملت أمال عراض لقطاع كبير من قوى التغيير و الشباب نحو التحول الديمقراطي نتمنى أن تؤتي أكلها لما لها من أثر إيجابي لتخليص المنطقة من الأنظمة القهرية والتوجه نحو الدولة المدنية و الشورى و العدالة الاجتماعية التي سقط دونها شباب الثورة مرددين شعار حرية سلام وعدالة ،كما أن التقارب الارتري الإثيوبي بعد مشروع أبي أحمد يعمق الهوة وينذر بانعكاس سلبي على تداخل الملف الارتيري الاثيوبي زد على ذلك التداخلات الإقليمية والدولية لأهمية البحر الأحمر في السلم والحرب.
يمكننا أن نقول أن ارتريا (ولت اسريتا) بلغة التقرايت وتعني أن ارتريا نشأت نتيجة سلسلة من المعالجات و الادوية ، أي أنها ( بنت البخرة والحجاب). كما يقولون ، و كانت كلفتها باهظة الثمن مهرت بدماء وأرواح أبنائها الشرفاء وهي وسام شرف يتلألأ في صدر كل وطني غيور وتاج في رأس كل مناضل شريف يحلم بغد مشرق لهذا ألشعب المكافح المميز ،وزينة في جيد كل الأرامل والأمهات من نساء وطننا الحبيب.
لذا علينا التفكير أكثر و نحن ننظر الى إتكاءتنا الاجتماعية والثقافية و أن نعتبرها مصدر فخر و اعتزاز لنا وعلينا أن نتعامل مع إمتدادنا كسفراء سلام و إناء يمزج كل حضارات القرن الأفريقي ونتطلع إلى مد جسور التواصل و الاعتراف بشريك الوطن رغم ضعفه و هوانه لأن سنة الحياة تقتضي بعد الضعف قوة و بعد الهوان عزة ، و أن من إستخدم اتكاءته طيلة ثلاثين عاماً لمواجهة أعتى الإمبراطوريات في أفريقيا وحقق النصر عليها من البديهي حماية ذاته والتكيف مع واقع المرحلة القادمة للحفاظ على ما تبقى من اللبن المسكوب.